تحميل رواية قاهر وحدته pdf محمد أمين الرازي

إنه وحيد في مكتبه : يشتغل كمحاسب، مكتئبا، شاحب الوجه، أهلكه الأرق وتصنع السعادة، فأصبحت له ابتسامة ميتة.

يجلس على كرسيه المريح، مطأطئ الراس، خاشع العيون، تلتهمه سكينة حزينة تبعده عن ضوضاء العاملين معه – ثمان ساعات ينتزعها من حياته يوميا ليمنحها بكل عطف الى حاسوب يدخل فيه الفواتير والعقود  الخاصة بالشركة. هو لا يريد اشعال حرب مع ذلك الحاسوب والقائه بعيدا – على الأرجح من النافذة، لأنه وببساطة لم تكن له إمكانية الاختيار، فعليه اعالة نفسه و اسرته.

يشتغل ابوه فلاحا بسيطا ،يأكل مما زرعت و حصدت يداه، يتقبل مصيره هذا منذ ان اصبح أبا ! يخشى ان يختلج عقله ان بدل هذه المهنة البئيسة، مهنة العصور الوسطى !

أما الأم ، فقد قطن البكاء بجوار مقلة عينيها، يوقظها في الصباح ، ويلكزها بعد الظهيرة، و يهلكها في المساء حتى تنام … كانت حياتها مثخنة بالجراح، وما يزيدها ضيما و أسى هو فقدانها ابنها البكر ،الذي هاجر إلى الديار الإسبانية في زورق تتلاعب الأمواج الصارخة من تحته، وهو يرتجف فوقه كطيف ساحب أجنحته المكسورة – بطبيعة الحال، لن يطير شيء بأجنحة مكسورة ، سيقع على الأرض و يتألم     بشدة.

وهكذا ، بعد ان فرغت الأمواج من استراحتها ، انتفضت قليلا فقلبت ذلك القارب راسا على عقب و القت ما فيه من المهاجرين في أعماق البحر .وقد كان آنذاك، الليل باردا ،و الماء مثلجا و الزورق مقلوبا ! ربما حاول أولئك الغرقى ان يتشجعوا و يستجمعوا قواهم ،ولكنهم سيحسون ان قوى الطبيعة  دائما ما تخونهم .. و في الصباح ، و بعد أيام .. بعد ان يتخذ الصيادون مواقعهم على الصخر ، ستصطاد صناراتهم اقمشة، احذية وبقايا بشرية.

أما على الجانب الاخر : على الشاطئ، سيكون البحر الشاسع قد أبدى بعض المعروف ، إذ سيلقي بجثث لا لون فيها، هامدة تنتظر كفنا أبيضا لضمها !

 لكن البحر لم يبدي معروفه كاملا هذه المرة، اذ ان جثة اخ عماد لم يجدوا لها اثرا ، فلربما اكلها الحوت .. و هذا هو ما  سبب لوعة هائلة للعائلة ، و خاصة بعد ان كان يعد امه بانه حالما يصل سيتصل بها ، وبعد أن يشتغل سيرسل لها نقودا تعيلها . لكن الاتصال الذي ثقب مسامعها هو انه ‘مات و لن يعود ‘.

اصبح اب عماد يرتاد حقله و يمكث فيه ساعات طوال ،يقتات على الماء و بعض الفواكه الجافة، يهذب روحه التائهة و سط هذا الكون التعيس ، فمكوثه في البيت يجعله يرى صورة ابنه الفقيد الحائطية والتي ابت امه ان تزيلها ، لذا ارتأى ان الاعتزال هو الحل للتخلص من الامه.

لكن عماد ; ابنهم الحبيب ، حاول ان ينصحهم عدة مرات بأن الاعتزال الذي أصبحوا يحبذونه ،ليس الا زلة وضعوا فيها أعمارهم ; لأن اليأس ينقص من العمر ، و يجوف القلوب .. لكن أصعب شيء أن تنصح جاهلا متألما، عششت في عقله الأفكار الغبية المستعصية على الواقع، يعتبر الجميع أعدائه ، و حتى ابنه سيعتبره متمردا يحاول عبثا مجابهة القدر و تسييره حسب هواه ،و ان فعل ذلك، ستحل عليه اللعنة و يصبح مسخا أو شبحا.. كما يملي عليه عقله الخرافي .و لكن نصح عماد ما زاد أباه الا طبقة أخرى من كفن الوحدة فترك ذلك في نفسه وقعا سيئا لم يكن ينتظره أرغمه على استعمال ذلك الكفن.

كان يسكن عماد شقة متواضعة ،قياسا الى مهنته كمحاسب، كانت تطل من جهة على الطريق ،و من جهة أخرى على ساحة شاسعة تنبت فيها شجيرات و حشائش كرأس الأجرب !

كان ذلك الغرس شنيعا يبث في النفس الرعب ، كان متفرقا بطريقة توحي أن كل شجيرة قاموا بغرسها عند رأس كل قبر – قبر خفي ،على الأرجح.

و كان عماد متشائما، يطل كل يوم من نافذة بيته على تلك الساحة التي غرست فيها الشجيرات. و رغم أنه كان يتجنب تلك النافذة مرارا، كانت قوى وحدته تتلاعب بخواطره، وتوشحه بالشرود، فيجد رأسه وسط النافذة ! حاول أن يبكي، أن ينوح، أن يرمي بكأس القهوة الساخن على تلك الشجيرات، لكنها لا تتحرك ولا شيء يتغير.

كان يحب أن يسم المحبة والفرح على صدره بدل التأوه والتنهد لكنه لم يعثر على طريق لذلك.

 

 

التحميل من هنا 

This website uses cookies to improve your experience. We'll assume you're ok with this, but you can opt-out if you wish. Accept Read More